فصل: السنة التاسعة من سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة التاسعة من سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر

وهي سنة ست وأربعين وستمائة‏.‏

فيها قايض الملك الأشرف موسى صاحب حمص تل باشر بحمص مع الملك الناصر يوسف ابن العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب ولذلك خرج الملك الصالح نجم الدين أيوب هذا من مصر بالعساكر حسب ما ذكرناه في ترجمته ثم عاد مريضًا لما بلغه مجيء الفرنج إلى دمياط‏.‏

وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين المذكور من الأمير علاء الدين ايدكين البندقداري الذي وفيها زار الملك الصالح في عوده إلى مصر القدس الشريف وأمر أن يذرع سوره فجاء ستة آلاف ذراع فأمر بأن يصرف مغل القدس في عمارته‏.‏

وتصدق السلطان الملك الصالح بألفي دينار في الحرم وزار الخليل - عليه السلام - ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفيها توفي علي بن أبي الجن بن منصور الشيخ أبو الجن‏.‏

وأبو محمد الحريري مقدم الطائفة الفقراء الحريرية ولد بقرية بسر وقدم دمشق صبيًا فنشأ بها‏.‏

وفي أحوال الحريري هذا أقوال كثيرة أثنى عليه أبو شامة وغيره وتكلم فيه جماعة منهم الذهبي وغيره‏.‏

والله أعلم بحاله‏.‏

وقال ابن إسرائيل‏:‏ وتوفي في الساعة التاسعة من يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان سنة خمس وأربعين من غير مرض وكان أخبر بذلك قبل موته بمدة‏.‏

وفيها توفى عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الشيخ الإمام العالم العلامة جمال الدين أبو عمرو المعروف بابن الحاجب الكردي المالكي النحوي الأصولي صاحب التصانيف في النحو وغيره‏.‏

مولده في سنة سبعين وخمسمائة بإسناد من بلاد الصعيد ومات في شوال وفي شهرته ما يغني عن الإطناب في ذكره - رحمه الله تعالى -‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو على منصور ابن سند بن منصور المعروف بابن الدباغ بالإسكندرية في شهر ربيع الأول‏.‏

وأبو القاسم عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري في جمادى الآخرة‏.‏

وله ست وثمانون سنة‏.‏

وأم حمزة صفية بنت عبد الوهاب بن علي القرشية أخت كريمة في رجب‏.‏

والعلامة أبو الحسن علي بن جابر بن الدباح الإشبيلي بها عند استيلاء الفرنج عليها‏.‏

والوزير الأكرم علي بن يوسف جمال الدين القفطي بحلب‏.‏

والعلامة جمال الدين أبو عمرو عثمان بن الجاجب‏.‏

وعمرو بن عبد الله بن أبي بكر الإشبيلي في شوال بالإسكندرية وله ست وسبعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وأربع وعشرون إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا‏.‏

السنة العاشرة من سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب على مصر وهي سنة سبع وأربعين وستمائة‏.‏

وفيها كانت وفاته في شعبان حسب ما تقدم ذكره‏.‏

فيها في أولها كان عود السلطان الملك الصالح المذكور من دمشق - حسب ما ذكرناه في العام الماضي - قال الذهبي‏:‏ وفيها في أولها عاد الملك الصالح إلى الديار المصرية مريضًا في محفة وكان قد قتل أخاه الملك العادل قبل خروجه من مصر فما هنأه الله‏.‏

واستعمل على نيابة دمشق الأمير جمال الدين بن يغمور‏.‏

قال‏:‏ وفيها ولدت امرأة ببغداد ابنين وبنتين في جوف وشاع ذلك فطلبوا إلى دار الخلافة وأحضروا وقد مات واحد فاحضر ميتًا فتعجبوا وأعطيت الأم من الثياب والحلي ما يبلغ ألف دينار‏.‏

وفيها توجه الملك الناصر داود صاحب الكرك إلى الملك الناصر يوسف صاحب حلب وبلغ السلطان الملك الصالح نجم الدين ذلك فأرسل إلى نائبه ابن يغمور بدمشق بخراب دار أسامة وقطع شجر بستان القصر الذي للناصر داود بالقابون وخراب القصر ففعل ذلك‏.‏

وفيها سار الملك الظاهر شادي والملك الأمجد ابنا الملك الناصر داود المقدم ذكره من الكرك إلى مصر وسلما الكرك إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين بغير رضا أبيهما الناصر فأعطى الملك الصالح للظاهر بن الناصر داود عوضًا عن الكرك خبز مائتي فارس بمصر وخمسين ألف دينار وثلاثمائة قطعة قماش والذخائر التي بالكرك وأعطى لأخيه الأمجد إخميم وخبز مائة وخمسين فارسًا بمصر فلم تطل مدتهم بمصر ومات الملك الصالح وزال ذلك كله من أيديهم حسب ما تقدم ذكره وحسب ما يأتي ذكره أيضًا‏.‏

وفيها توفي الصاحب فخر الدين يوسف بن صدر الدين شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه الجويني‏.‏

كان عاقلًا جوادًا ممدحًا مدبرًا خليقًا بالملك محبوبًا إلى الناس‏.‏

ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب على دمياط ندب إلى الملك فامتنع ولو أجاب لما خالفوه واستشهد على دمياط بعد أخذها‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏ عصيت هوى نفسي صغيرًا فعندما رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر أطعت الهوى عكس القضية ليتني خلقت كبيرًا وانتقلت إلى الصغر قلت‏:‏ ويذكر هذا الشعر أيضًا لغيره فيما يأتي - إن شاء الله تعالى -‏.‏

الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو يعقوب يوسف بن محمود بن الحسين الساوي في رجب بالقاهرة وولد بدمشق في سنة ثمان وستين‏.‏

والسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل بالمنصورة في شعبان وله أربع وأربعون سنة‏.‏

والأمير مقدم الجيوش فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين الجوييي في ذي القعدة شهيدًا يوم وقعة المنصورة‏.‏

وأبو جعفر محمد بن عبد الكريم بن محمد ببغداد‏.‏

وصفي الدين عمر بن عبد الوهاب بن البرادعي في شهر ربيع الآخر‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ سلطنة الملك المعظم توران شاه على مصر هو السلطان الملك المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين محمد أبي بكر ابن نجم الدين أيوب بن شادي سلطان الديار المصرية الأيوبي الكردي آخر ملوك بني أيوب بمصر ولا عبرة بولاية الأشرف في سلطنة الملك المعز أيبك‏.‏

تسلطن الملك المعظم هذا بعد موت أبيه الملك الصالح بنحو شهرين ونصف وقيل‏:‏ أربعة أشهر ونصف وهو الأصح لأن الملك الصالح أيوب كانت وفاته في ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة والفرنج محدقة بعساكر الإسلام فأخذت زوجته أم ولده خليل شجرة الدر موته مخافة على المسلمين وبايعوا لابنه المعظم هذا بالسلطنة في غيبته وصارت شجرة الدر تدبر الأمور وتخفي موت السلطان الملك الصالح إلى أن حضر المعظم توران شاه هذا من حصن كيفا إلى المنصورة في أول المحرم من سنة ثمان وأربعين وستمائة‏.‏

وكان المعظم هذا نائبًا لأبيه الملك الصالح على حصن كيفا وغيرها من ديار بكر‏.‏

ولما وصل المعظم إلى المنصورة فتح الله على يديه ونصر الله الإسلام في يوم دخوله فتيمن الناس بطلعته‏.‏

وسبب النصر أنه لما استهلت سنة ثمان وأربعين والفرنج على المنصورة والجيوش الإسلامية بإزائهم وقد طال القتال بين الفريقين أشهرًا ضعف حال الفرنج لانقطاع الميرة عنهم ووقع في خيلهم وباء وموت وعزم ملكهم الفرنسيس على أن يركب في أول الليل ويسير إلى دمياط فعلم المسلمون بذلك‏.‏

وكان الفرنج قد عملوا جسرًا عظيمًا من الصنوبر على النيل فسهوا عن قطعه فعبر منه المسلمون في الليل إلى برهم وخيامهم على حالها وثقلهم وأحدق المسلمون بهم يتخطفونهم طول الليل قتلًا وأسرًا فالتجؤوا إلى قرية تسمى منية أبي عبد الله وتحصنوا بها ودار المسلمون حولها وظفر أسطول المسلمين بأسطولهم فغنموا جميع المراكب بمن فيها‏.‏

واجتمع إلى الفرنسيس خمسمائة فارس من أبطال الفرنج وقعد في حوش منية أبي عبد الله وطلب الطواشي رشيد الدين والأمير سيف الدين القيمري فحضرا إليه فطلب منهما الأمان على نفسه ومن معه فأجاباه وأفناه وهرب باقي الفرنج على حمية وأحدق المسلمون بهم وبقوا يحملون عليهم حملة بعد حملة حتى أبيدت الفرنج ولم يبق منهم سوى فارسين فرموا نفوسهم بخيولهم إلى البحر فغرقوا وغنم المسلمون منهم ما لا يوصف واستغنى خلق وأنزل الفرنسيس في حراقة وأحدقت به مراكب المسلمين تضرب فيها الكوسات والطبول‏.‏

وفي البر الشرقي العسكر سائر منصور مؤيد والبر الغربي فيه العربان والعامة في لهو وتهان وسرور بهذا وقال سعد الدين بن حمويه في تاريخه‏:‏ لو أراد الفرنسيس أن ينجو بنفسه لخلص على خيل سبقٍ أو في حراقة لكنه أقام في الساقة يحمي أصحابه‏.‏

وكان في الأسر ملوك وكنود من الفرنج‏.‏

وأحصي عدة الأسرى فكانوا نيفًا وعشرين ألف آدمي والذي غرق وقتل سبعة آلاف نفس‏.‏

قال‏:‏ فرأيت القتلى وقد ستروا وجه الأرض من كثرتهم وكان الفارس العظيم يأتيه وسائق يسوقه وراءه كأذل ما يكون وكان يومًا لم يشاهد المسلمون مثله ولم يقتل في ذلك اليوم من المسلمين مائة نفس ونفذ السلطان الملك المعظم توران شاه للفرنسيس والملوك الذين معه والكنود خلعًا‏.‏

وكانوا نيفًا وخمسين فلبس الكل سواه‏.‏

وقال إن بلادي بقدر بلاد صاحب مصر كيف ألبس خلعته‏!‏ وعمل السلطان من الغد دعوة عظيمة فامتنع الملعون أيضًا من حضورها وقال‏:‏ أنا ما آكل طعامه وما يحضرني إلا ليهزأ بي عسكره ولا سبيل إلى هذا‏!‏ وكان عنده عقل وثبات ودين فالنصارى كانوا يعتقدون فيه بسبب ذلك‏.‏

وكان حسن الخلقة‏.‏

وأبقى الملك المعظم الأسرى وأخذ أصحاب الصنائع ثم أمر بضرب رقاب الجميع‏.‏

انتهى‏.‏

وقال غيره‏:‏ وحبسوا الفرنسيس بالمنصورة بدار ابن لقمان يحفظه الطواشى صبيح مكرمًا غاية الكرامة‏.‏

وقال آخر‏:‏ بمصر بدار ابن لقمان وهو الأصح وزاد بعضهم فقال‏:‏ دار ابن لقمان هي الدار الكبيرة بالقرب من باب الخرق يعني دار ابن قطينة انتهى‏.‏

وقال أبو المظفر في تاريخه مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ وفي أول ليلة منها يعني سنة ثمانٍ وأربعين كان المصاف بين الفرنج والمسلمين على المنصورة بعد وصول المعظم توران شاه إلى المخيم ومسك الفرنسيس وقتل من الفرنج مائة ألف ووصل كتاب المعظم توران شاه إلى جمال الدين بن يغمور يعني إلى نائب الشام يقول‏:‏ ‏"‏ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏.‏

وما النصر إلا من عند الله‏.‏

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم‏.‏

وأما بنعمة ربك فحدث‏.‏

وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏.‏

نبشر المجلس السامي الجمالي بل نبشر الإسلام كافة بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين فإنه كان قد استفحل أمره واستحكم شره ويئس العباد من البلاد والأهل والأولادة فنودوا‏:‏ ‏"‏ ولا تيأسوا من روح الله ‏"‏ الآية‏.‏

ولما كان يوم الأربعاء مستهل السنة المباركة تمم الله على الإسلام بركتها فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح وجمعنا العربان والمطوعة واجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى فجاؤوا من كل فجٍ عميق ومن كل مكان بعيد سحيق ولما رأى العدو ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الاتفاق بينهم وبين الملك العادل أبي بكر فأبينا‏.‏

ولما كان في الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين فسرنا في آثارهم طالبين وما زال السيف يعمل فيهم عامة الليل ويدخل فيهم الخزي والويل‏.‏

فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفًا غير من ألقى نفسه في اللجج‏.‏

وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج والتجأ الفرنسيس إلى المنية وطلب الأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه وتسلمنا دمياط بعونه وقوته وجلاله وعظمته ‏"‏‏.‏

وأرسل الملك المعظم مع الكتاب إلى ابن يغمور المذكور بغفارة الفرنسيس فلبسها ابن يغمور في دست مملكته بدمشق وكانت سقراط أحمر بفرو سنجاب‏.‏

فكتب ابن يغمور في الجواب إلى السلطان الملك المعظم المذكور بيتين لابن إسرائيل وهما‏:‏ أسيد أملاك الزمان بأسرهم تنجزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدا ويلبس أسلاب الملوك عبيده انتهى كلام أبي المظفر بعد أن ساق كلامًا طويلًا من هذا النموذج بنحو ما حكيناه‏.‏

وقال غيره‏:‏ وبمي الفرنسيس في الاعتقال إلى أن قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب يعني صاحب الترجمة فدخل حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان في قضيته على أن يسلم للمسلمين دمياط ويحمل خمسمائة ألف دينار‏.‏

فأركبوه بغلة وساقت معه الجيوش إلى دمياط فما وصلوا إلا والمسلمون على أعلاها بالتكبير والتهليل والفرنج الذين كانوا بها قد هربوا إلى المراكب وأخلوها فخاف الفرنسيس واصفر لونه‏.‏

فقال الأمير حسام الدين بن أبي علي للملك المعز‏:‏ هذه دمياط قد حصلت لنا وهذا الرجل في أسرنا وهو عظيم النصرانية وقد اطلع على عوراتنا والمصلحة ألا نطلقه وكان قد تسلطن أيبك التركماني الصالحي أو صار حاكمًا عن المحلكة شجرة الدر فقال أيبك وغيره من المماليك الصالحية‏:‏ ما نرى الغمر‏!‏ وكانت المصلحة ما قاله حسام الدين‏.‏

فقووا عليه وأطلقوه طمعًا في المال‏!‏ فركب في البحر الرومي في شيني‏.‏

وذكر حسام الدين أنه سأل الفرنسيس عن عدة العسكر الذي كان معه لما قدم لأخذ دمياط فقال‏:‏ كان معي تسعة آلاف وخمسمائة فارس ومائة ألف وثلاثون ألف طبسي سوى الغلمان والسوقة والبخارة‏.‏

انتهى‏.‏

قال سعد الدين في تاريخه‏:‏ اتفقوا على أن يسلم الفرنسيس دمياط وأن يعطي هو والكنود ثمانمائة ألف دينار عوضًا عما كان بدمياط من الحواصل ويطلقوا أسرى المسلمين فحلفوا على هذا وركبت العساكر ثاني صفر إلى دمياط قرب الظهر وساروا حتى دخلوها ونهبوا وقتلوا من بقي من الفرنج حتى ضربتهم الأمراء وأخرجوهم وقوموا الحواصل التي بقيت في دمياط بأربعمائة ألف دينار وأخذوا من الملك الفرنسيس أربعمائة ألف دينار وأطلقوه العصر هو وجماعته فانحدروا في شيني إلى البطس وأنفذ رسولًا إلى الأمراء الصالحية يقول‏:‏ ما رأيت أقل عقلًا ولا دينًا منكم‏!‏ أما قلة الدين فقتلتم سلطانكم بغير ذنبٍ يعني لما قتلوا ابن أستاذهم الملك المعظم توران شاه بعد أخذ دمياط بأيام على ما سنذكره هنا إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ وأما قلة العقل فكذا مثلي ملك البحر وقع في أيديكم بعتموه بأربعمائة ألف دينار ولو طلبتم مملكتي دفعتها لكم حتى أخلص‏.‏

ثم لما سار إلى بلاده أخذ في الاستعداد والعود إلى دمياط فأهلكه الله تعالى‏.‏

وندمت الأمراء على إطلاقه‏.‏

ولما أراد الفرنسيس العود إلى دمياط قال في ذلك الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح قصيدته المشهورة وكتب بها إليه يعني إلى الفرنسيس وهي‏:‏ قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدقٍ من قول فصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفًا لا ترى منهم إلا قتيلًا أو أسيرًا جريح وفقك الله لأمثالها لعل عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضيًا فرب غش قد أتى من نصيح وقل لهم إن أضمروا عوده لأخذ ثارٍ أو لعقدٍ صحيح قلت‏:‏ لله دره‏!‏ فيما أجاب عن المسلمين مع اللطف والبلاغة وحسن التركيب رحمه الله‏.‏

وأما أمر الملك المعظم توران شاه صاحب الترجمة قال العلامة شمس الدين يوسف بن قزأوغلي في تاريخه في سبب قتله قال‏:‏ ذكرنا مجيئه إلى الشام وذهابه إلى مصر واتفق كسرة الفرنج عند قدومه فتيمن الناس بطلعته غير أنه بدت منه أسباب نفرت القلوب عنه فاتفقوا على قتله‏.‏

وكان فيه نوع خفة فكان يجلس على السماط فإذا سمع فقيهًا يذكر مسألة وهو بعيد عنه يصيح‏:‏ لا نسلم‏!‏‏.‏

ثم احتجب عن الناس أكثر من أبيه وكان إذا سكر يجمع الشموع ويضرب رؤوسها بالسيف فيقطعها ويقول‏:‏ كذا أفعل بالبحرية‏!‏ يعني مماليك أبيه الذين كان جعلهم بقلعة البحر بجزيرة الروضة ثم يسمي مماليك أبيه بأسمائهم وأهانهم وقدم الأراذل وأبعد الأماثل‏.‏

ووعد الفارس أقطاي أن يؤمره ولم يف له فاستوحش منه‏.‏

وكانت أم خليل يعني شجرة الدر زوجة والده الملك الصالح لما وصل إلى القاهرة مضت هي إلى القدس فبعث يهددها ويطلب المال والجواهر منها فخافت منه فكاتبت فيه فاتفق الجميع عند ذلك على قتله‏.‏

فلما كان يوم الاثنين سابع عشرين المحرم جلس المعظم على السماط فضربه بعض مماليك أبيه البحرية بالسيف فتلقاه بيده فقطع بعض أصابعه وقام من وقته ودخل البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور وصاح‏:‏ من جرحني‏.‏

قالوا‏:‏ الحشيشية‏.‏

فقال‏:‏ لا والله إلا البحرية والله لا واستدعى المزين فخيط يده وهو يتوعدهم فقال بعضهم لبعض‏:‏ تمموه وإلا أبادكم‏!‏ فدخلوا عليه فانهزم إلى أعلى البرج فأوقدوا النيران حول البرج ورموه بالنشاب فرمى بنفسه وهرب نحو البرج وهو يقول‏:‏ ما أريد ملكًا‏!‏ دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمون‏!‏ ما فيكم من يصطنعني ويجيرني‏!‏ والعساكر واقفة فما أجابه أحد والنشاب تأخذه فتعلق بذيل الفارس أقطاي فما أجاره فقطعوه قطعًا وبقي على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخًا لا يجسر أحد أن يدفنه حتى شفع فيه رسول الخليفة فحمل إلى ذلك الجانب فدفن به‏.‏

ولما قتلوه دخلوا على الفرنسيس الخيمة بالسيوف فقالوا نريد المال فقال‏:‏ نعم فأطلقوه وسار إلى عكا على ما اتفقوا عليه معه‏.‏

قال‏:‏ وكان الذي باشر قتله أربعة وكان أبوه الملك الصالح أيوب قال لمحسن الخادم‏:‏ اذهب إلى أخي العادل إلى الحبس وخذ معك من المماليك من يخنقه فعرض محسن ذلك على جميع المماليك فامتنعوا إلا هؤلاء الأربعة فإنهم مضوا معه وخنقوه فسلطهم الله على ولده فقتلوه أقبح قتلة ومثلوا به أعظم مثلة لما فعل بأخيه‏!‏ قال الأمير حسام الدين بن أبي علي‏:‏ كان توران شاه لا يصلح للملك كنا نقول لأبيه الملك الصالح نجم الدين أيوب‏:‏ ما تنفذ تحضره إلى هاهنا‏!‏ فيقول‏:‏ دعوني من هذا فألححنا عليه يومًا فقال‏:‏ أجيبه إلى هاهنا أقتله‏!‏ وقال عماد الدين بن درباس‏:‏ رأى بعض أصحابنا الملك الصالح أيوب في المنام وهو يقول‏:‏ # قتلوه شر قتله صار للعالم مثله لم يراعوا فيه إلا لا ولا من كان قبله ستراهم عن قليلٍ لأقل الناس أكله وكانوا قد جمعوا في قتله ثلاثة أشياء‏:‏ السيف والنار والماء‏!‏ وتسلطن بعده زوجة والده أم خليل شجرة الدر باتفاق الأمراء وخشداشينها المماليك الصالحية وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة‏.‏

وكانت ولاية توران شاه هذا على مصر دون الشهر وقتل في يوم الاثنين سابع عشرين المحرم من سنة ثمان وأربعين وستمائة وكان قدومه من حصن كيفا إلى المنصورة في ليلة مستهل المحرم من السنة المذكورة حسب ما تقدم ذكره‏.‏

سلطنة الملكة شجرة الدر على مصر هي الملكة شجرة الدر بنت عبد الله جارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته وأم ولده خليل وكانت حظية عنده إلى الغاية وكانت في صحبته وهو ببلاد المشرق في حياة أبيه الملك الكامل ثم سارت معه لما حبسه الملك الناصر داود صاحب الكرك بالكرك ومعها ولدها خليل أيضًا وقاست مع الصالح تلك الأهوال والمحن ثم قدمت معه مضر لما تسلطن وعاش ابنها خليل بعد ذلك وتوفي صغيرًا‏.‏

ولا زالت في عظمتها من الحشم إليها غالب تدبير الديار المصرية في حياة سيدها الملك الصالح وفي مرضه وبعد موته والأمور تدبرها على أكمل وجه إلى أن قدم ولد زوجها الملك المعظم توران شاه فلم يشكر لها توران شاه ما فعلته من الإخفاء لموت والده وقيامها بالتدبير أتم قيام حتى حضر إلى المنصورة وجلس في دست السلطنة‏.‏

ولم تدع أحدًا يطمع في الملك لعظمتها في لنفوس فترك توران شاه ذلك كله وأخذ في تهديدها وطلب الأموال منها بسرعة سلم يحسن ذلك ببال أحد‏.‏

واتفقوا على ولايتها لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها وجعلوا المعز أيبك التركماني أتابكا لها وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة لكنها لم تلبس خلعة السلطنة الخليفتي على العادة غير أنهم بايعوها السلطنة في أيام أرسالًا وتم أمرها‏.‏

قال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في تاريخه‏:‏ ‏"‏ شجرة الدر أم خليل الصالحية وجارية السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وأم ولده خليل كان الملك الصالح يحبها حبًا عظيمًا ويعتمد عليها في أموره ومهماته وكانت بديعة الجمال ذات رأي وتدبير ودهاء وعقل ونالت من السعادة ما لم ينله أحد في زمانها‏.‏

ولما مات الملك الصالح في شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة على دمياط في حصار الفرنج أخفت موته وصارت تعلم بخطها مثل علامة الملك الصالح وتقول‏:‏ السلطان ما هو طيب‏.‏

وتمنع الناس من الدخول إليه وكان أرباب الدولة يحترمونها‏.‏

ولما علموا بموت السلطان ملكوها عليهم أيامًا‏.‏

وتسلطنت بعد قتل السلطان الملك المعظم ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب وخطب لها على المنابر وكان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة‏:‏ ‏"‏ واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح ‏"‏‏.‏

انتهى كلام الصفدي‏.‏

وقال غيره‏:‏ وكانت تعلم على المناشير وغيرها ‏"‏ والدة خليل ‏"‏ وبقيت على ذلك مدة ثلاثة أشهر إلى أن خلعت نفسها واستقر زوجها الملك المعز أيبك التركماني الصالحي الآتي ذكره إلى أن اتفقت المماليك البحرية وقالوا‏:‏ لا بد لنا من واحد من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته وكان القائم بهذا الأمر الأصر الفارس أقطاي الجمدار وبيبرس البندقداري وبلبان الرشيدي وسنقر الرومي فأقاموا في السلطنة الملك الأشرف الأيوبي‏.‏

وقيل‏:‏ إنه تزوجها أيبك بعد سلطنته وكانت مستولية على أيبك في جميع أحواله ليس له معها كلام‏.‏

وكانت تركية ذات شهامة ونفس قوية وسيرة حسنة شديدة الغيرة‏.‏

فلما بلغها أن زوجها الملك المعز أيبك يريد أن يتزوج ببنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وقد عزم على ذلك فتخيلت منه أنه ربما عزم على إبعادها أو إعدامها لأنه سئم من حجرها عليه واستطالتها فعاجلته وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك‏.‏

قال الشيخ قطب الدين‏:‏ ‏"‏ وطلبت صفي الدين إبراهيم بن مرزوق وكان بمصر فاستشارته ووعدته بالوزارة فأنكر عليها ونهاها عن ذلك فلم تصغ إلى قوله وطلبت مملوكًا للطواشي محسن الجوجري الصالحي وعرضت عليه أمرها ووعدته ومنته إن قتل المعز‏!‏ ثم استدعت جماعة من الخدام واتفقت معهم‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء الثالث والعشرون من شهر ربيع الأول سنة لعب المعز بالكرة ومن معه وصعد إلى القلعة آخر النهار وأتى الحمام ليغتسل فلما قلع ثيابه وثب عليه سنجر الجوجري والخدم فرموه وخنقوه وطلبت شجرة الدر ابن مرزوق على لسان الملك المعز فركب حماره وبادر وطلع القلعة من باب السر فرآها جالسة والمعز بين يديها ميت فأخبرته الأمر فعظم عليه جدًا واستشارته فقال‏:‏ ما أعرف ما أقول وقد وقعت في أمر عظيم مالك منه مخلص‏!‏ ثم طلبت الأمير جمال الدين بن أيدغدي العزيزي وعز الدين أيبك الحلبي وعرضت عليهما السلطنة فامتنعا فلما ارتفع النهار شاع الخبر واضطربت الناس ‏"‏‏.‏

انتهى كلام قطب الدين‏.‏

وقيل في قتله وجه آخر‏:‏ وهو أن شجرة الدر لما غارت رتبت للمعز سنجر الجوهري مملوك الفارس أقطاي فدخل عليه الحمام ولكمه ورماه وألزم الخدام معاونته وبقيت هي تضربه بالقبقاب وهو يستغيث ويتضرع إليها إلى أن مات وانطوت الأخبار عن الناس تلك الليلة‏.‏

فلما كان سحر يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول ركب الأمراء الأكابر إلى القلعة على عادتهم وليس عندهم خبر بما جرى ولم يركب الفائزي في ذلك اليوم وتحيرت شجرة الدر فيما تفعل فأرسلت إلى الملك المنصور نور الدين علي ابن الملك المعز تقول له عن أبيه‏:‏ إنه ينزل إلى البحر في جمع من الأمراء لإصلاح الشواني التي تجفزت للمضي إلى دمياط ففعل وقصدت بذلك لتقل الناس من على الباب لتتمكن مما تريد فلم يتم مرادها‏.‏

ولما تعالى النهار شاع الخبر بقتل الملك المعز واضطربت الناس في البلد واختلفت أقاويلهم ولم يقفوا على حقيقة الأمر وركب العسكر إلى جهة القلعة وأحدقوا بها ودخلها مماليك الملك المعز أيبك والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي مقدم الحلقة وطمع الأمير عز الدين الحلبي في التقدم وساعده على ذلك جماعة من الأمراء الصالحية فلم يتم له ذلك‏.‏

ثم استحصر الذين في القلعة الوزير شرف الدين الفائزي واتفقوا على تمليك الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز أيبك وعمره يومئذ نحو خمس عشرة سنة فرتبوه في الملك ونودي في البلد بشعاره وسكن الناس وتفرقوا إلى دورهم ونزل الأمراء الصالحية إلى دورهم‏.‏

فلما كان يوم الخميس خامس عشرين الشهر وقع في البلد خبطة عظيمة وركب العسكر إلى القلعة‏.‏

واتفق رأي الذين بالقلعة على نصب الأمير علم الدين سنجر الحلبي في السلطنة وكان أتابك الملك المعز ويعرف بالمشد واستحلفوا العسكر له وحلف له الأمراء الصالحية على كره من أكثرهم وامتنع الأمير عز الدين ثم خاف على نفسه فحلف وانتظمت الأمور ثم انتقض بعد ذلك‏.‏

وفى يوم الجمعة سادس عشرين شهر ربيع الأول خطب للملك المنصور بمصر والقاهرة‏.‏

وأما شجرة الدر صاحبة الترجمة فإنها امتنعت بدار السلطنة هي والذين قتلوا الملك المعز أيبك وطلب المماليك المعزية هجوم الدار عليهم فحالت الأمراء الصالحية بينهم وبينها حمية لشجرة الدر لأنها خشداشتهم فلما غلبوا مماليك المعز منهم ومنها أمنوها وحلفوا لها أنهم لا يتعرضون لها بسوء‏.‏

فلما كان يوم الاثنين التاسع والعشرون منه أخرجت من دار السلطنة إلى البرج الأحمر فحبست به وعندها بعض جواريهًا وقبض على الخدام واقتسمت الأمراء جواريها وكان نصر العزيزي الصالحي وهو أحد الخدام القتلة قد تسرب إلى الشام يوم ظهور الواقعة وأحاطت المماليك المعزية بالدار السلطانية وجميع ما فيها ويوم ظهور الواقعة أحضر الصفي بن مرزوق من الدار وسئل عن حضوره عند شجرة الدر لما طلبته بعد قتل المعز واستشارته فعرفهم صورة الحال فصدقوه وأطلقوه‏.‏

وحضر الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي وكان الناس قد قطعوا بموت المعز فعند حضور أيدغدي العزيزي المذكور أمر باعتقاله بالقلعة ثم نقل إلى الإسكندرية فاعتقل بها ثم صلب الخدام الذين اتفقوا على قتل المعز وهرب سنجر غلام الجوهري ثم ظفر به وصلب إلى جانب أستاذه محسن فمات سنجر من يوم الاثنين المذكور وقت العصر على الخشبة وتأخر موت الباقين إلى تمام يومين‏.‏

واستمرت شجرة الدر بالبرج الأحمر بقلعة الجبل والملك المنصور علي ابن الملك المعز أيبك ووالدته يحرضان المعزية على قتلها والمماليك الصالحية تمنعهم عنها لكونها جارية أستاذهم ولا زالوا على ذلك إلى يوم السبت حادي عشر شهر ربيع الآخر حيث وجدت مقتولة مسلوبة خارج القلعة فحملت إلى التربة التي كانت بنتها لنفسها بقرب مشهد السيدة نفيسة - رحمها الله تعالى - فدفنت‏.‏

وشجرة الدر أوقاف على التربة المذكورة وغيرها‏.‏

وكان الصاحب بهاء الدين‏.‏

علي بن محمد بن سليم المعروف بابن حنا وزيرها ووزارته لها أول عرجة ترقاها من المناصب الجليلة‏.‏

ولما تيقنت شجرة الدر أنها مقتولة أودعت جملة من المال والجواهر وأعدت أيضًا جملة من الجواهر النفيسة فسحقتها في الهاون لئلا يأخذها الملك المنصور ابن المعز أيبك وأمه فإنها كانت تكره المنصور ووالدته وكانت غير متجملة في أمرها لما تزوجها أيبك حتى منعته الدخول إليهما بالكلية فلهذا كان المنصور وأمه يحرضان المماليك المعزية على قتلها‏.‏

وكانت خيرة دينة رئيسة عظيمة في النفوس ولها مآثر وأوقاف على وجوه البر معروفة بها‏.‏

والذي وقع لها من تملكها الديار المصرية لم يقع ذلك لامرأة قبلها ولا بعدها في الإسلام‏.‏

انتهى الجزء السادس من النجوم الزاهرة ويليه الجزء السابع وأوله‏:‏ ذكر سلطنة المعز أيبك التركماني على مصر‏.‏